بينما تتصفح مواقع مختلفة على الويب بحثًا عن وصفة عشاء سريعة، يستقبلك كل موقع بنفس رسالة الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط، أو ما يعرف بـ «الكوكيز» أو الكعيكات. في محاولة للهرب من هذه النافذة وعلى عجلة من أمرك، تقفز عيناك لا إراديًّا إلى الزر الكبير اللامع الذي كُتب عليه ”موافق“ لتتخلص منها وتعود إلى وصفتك. صحتين! لكن ما الذي وافقتَ عليه بالضبط؟

ما هي ملفات تعريف الارتباط؟

هي ببساطة مجموعة مصغرة من البيانات التي تخزنها المواقع على جهازك، يمكنك تشبيهها بملاحظة يتركها الموقع على جهازك تُخبر الموقع ”هذا الزائر مَرَّ من هنا“. بعض هذه الملفات تحتوي بيانات مفيدة —بل وضروريّة في أحيان كثيرة— لاستخدام الموقع بسلاسة، مثل معلومات تسجيل الدخول أو محتوى عربة التسوق أو تفضيلات اللغة والبلد. يسمى هذا النوع بملفات تعريف الارتباط الأساسية (Essential Cookies). هناك أيضًا ملفات تعريف الارتباط التحليلية (Analytics Cookies) وهي ما تجمع معلومات عن استخدامك للموقع لتحسين الأداء، لكنها ليست ضرورية لعمله.

لكن هناك نوع آخر، نوعٌ مخيف: ملفات تعريف الارتباط الخاصة بالتتبُّع (tracking cookies). وهذه الملفات ليست بتلك الأهمية لك كمستخدم، لكنّها مهمة للشركات الكبرى التي تقف وراءها، بل هي أحد أذرع تجارتين كاملتين يفوق حجمهما ٧٠٠ مليار دولار، وهي تجارة البيانات الضخمة والإعلانات الرقمية.

غالبًا ما يُزرع هذا النوع من قِبل أطراف ثالثة (third-parties) مثل الشبكات الإعلانية، وتساهم هذه الملفات في تتبُّع أنشطتك وتحليلها لتقديم إعلانات ذات صلة بناءً على هويتك وبياناتك الشخصية وحالتك الاجتماعية والاقتصادية، وتقريبًا كل البيانات التي يتمكنون من جمعها عنك بأي طريقة.

”أوافق“

عندما تضغط على زر ”قبول الكل“ أو ”أوافق“ فإنك تعطي الموقع الضوءَ الأخضر ليجمع بياناتك ويحللها بل ويشاركها مع عشرات أو مئات الأطراف الثالثة، مثل شركات تحليل النشاط أو شبكات الإعلانات.
تخيّل أنك زرت موقعًا ما، قد لا يهتم الموقع كثيرًا ببياناتك، لكن شركات الإعلانات التي تتعامل معه تزرع ملفات خاصة بها لتتعقبك عبر مواقع أخرى. وهكذا، ترى إعلانًا عن شيء شاهدته قبل يومين، في موقع مختلف تمامًا.

بصمتك الرقمية

رغم أن هذه الملفات كانت الأداة الأساسية في التتبُّع لسنوات طويلة، الكثير من زوار المواقع بدأوا يحذفونها أو يرفضونها، مما دفع الشركات إلى تطوير أساليب أكثر تطفّلًا... أصبح تتبُّع البصمة الرقمية (Digital Fingerprinting) أداةً جديدةً من أدوات التتبُّع التي تميّز جهازك بناءً على خصائصه الفريدة. فأحيانًا تُزرع أكوادًا صغيرة (مثل «بيكسل» أو إشارات خفية) داخل صفحات الويب أو الصور، وتحتوي على مُعرِّف المستخدم الخاص بك، وترسل معلوماتك بمجرد تحميل الصفحة، دون أن تلاحظ. حتى لو حذفت هذه الملفات، يمكنهم أن يتعقّبوك بهذه الأساليب.

كيف أحمي بياناتي؟

لنكن واقعيين، من الصعب استعمال الإنترنت اليوم بدون أي تتبُّع، لكن هناك ما يمكننا أن نفعله لتقليل كمية البيانات التي تجمعها المواقع عنك.

اُرفض ملفات الارتباط الاختيارية

كلنا ننزعج من تلك النوافذ ونرغب بالتخلص منها بأسرع وقت كي نستمر في التصفح. لكن بضع ثوانٍ من وقتك قد تخلصك من جزء كبير من تبعات التتبُّع. كل ما عليك فعله هو رفض ملفات الارتباط الاختيارية —والتي تشمل تلك المتعلقة بالتتبُّع أو باﻷغراض الإحصائية—. لكن هذا ليس بالخيار السهل في بعض الأحيان، فهناك تلاعب كبير من قبل الشركات لجعلك تقبل تلك الملفات جميعها.

أحد أكثر الأساليب استخدامًا هو «الأنماط المظلمة» في التصميم، وذلك بجعل خيار القبول أسهل ما يمكن، بنقرة واحدة وبألوان ساطعة تشد انتباهك، بينما يختبئ خيار الرفض وراء مجموعة أخرى من الخيارات، أو قد لا يكون موجودًا من الأساس. وهذا ما يدفع أغلب المستخدمين —ولا ألومهم— إلى أسهل خيار أمامهم وهو قبول الكل. معرفتك بهذه الأساليب المخادعة يجعلك أقل عرضة للوقوع فيها.

استخدم متصفحات تحترم خصوصيتك

في عالم يهيمن فيه متصفح «غوغل كروم»[١]، التابع لأكثر الشركات ربحًا في عالم الإعلانات الرقمية وجمع البيانات[٢]، لك أن تتخيل كمية البيانات التي يمكن لشركة غوغل جمعها عنك فقط من خلال تصفحك عن طريق برنامجهم واستخدام محرك بحثهم، لذا يعد استخدام متصفح آخر خطوة بسيطة تقلل من التتبُّع. فيما يلي بعض البدائل عن متصفح «غوغل كروم»:

  • «فايرفوكس» (Firefox): متصفح مفتوح المصدر طوّرته شركة »موزيلا». يتميز بواجهة سهلة وبدعم كبير للإضافات، ويحتوي على إعدادات خصوصية جيدة مثل الحماية من التتبُّع الافتراضي، بالإضافة إلى إمكانية كبيرة للتعديل الشخصي.
  • «بريڤ» (Brave): متصفح يتخذ الخصوصية ركيزةً، إذ يمنع الإعلانات وأدوات التتبُّع تلقائيًا. يأتي بواجهة تشبه واجهة «غوغل كروم» ويحتوي على مزايا إضافية مثل وضع «تور» المدمج الذي يتيح الوصول الآمن إلى الإنترنت.
  • «ليبر وولف» (LibreWolf): نسخة معدّلة من فايرفوكس لكنها مصممة تحديدًا للخصوصية القصوى. إذ أُزيلت أي أدوات قد تجمع بيانات، مع إعدادات أمان مشددة فور تنزيله ودون الحاجة لأي تعديلات. لا يُلزم هذا المتصفح تحديثاتٍ تلقائية، مما يُبقي للمستخدم تحكّمًا أكبر.
  • «مولڤاد» (Mullvad): متصفح مُطوّر بالتعاون بين شركة Mullvad VPN و«موزيلا»، ليوفّر أقصى درجات الخصوصية عند استخدام الإنترنت، حتى دون VPN، ويحدُّ من التتبُّع لا سيما تتبُّع البصمة الرقمية.

استخدم محركات بحث بديلة

محرك البحث هو أحد أكثر الأدوات استعمالًا يوميًا على الإنترنت، وكل عملية بحث تشي بالكثير عنك: ماذا تفكر، ماذا تريد، وأحيانًا قد تكشف مكان سكنك أو وظيفتك. لذلك، لا عجب أن غوغل —رغم كونه محرك البحث الأقوى والأدقّ— يستخدم هذه البيانات حتى يبني ملفًّا عنك ويستهدفك بالإعلانات. ومع بزوغ عصر الذكاء الاصطناعي، أصبحت هذه البيانات أكثر حساسية، خصوصًا مع إدماج الأجوبة التلقائية من الذكاء الاصطناعي التوليدي في صفحة نتائج البحث، وبدأ الناس يطرحون أسئلتهم مباشرة في صندوق البحث بدلًا من استخدام كلمات مفتاحية. لحسن الحظ، هناك بدائل تحترم خصوصيتك دون أن تضحّي بجودة النتائج.

  • DuckDuckGo: محرك بحث مستقل يركز بالكامل على الخصوصية. لا يجمع ولا يخزن سجلّ البحث أو أي بيانات شخصية. تأتي نتائجه من مصادر متعددة مثل «بينغ» و«ويكيبيديا»، ويمنع أدوات التتبُّع في المواقع عند إضافته إلى المتصفح.
  • Startpage: يوفر نتائج بحث غوغل دون أن يعرف غوغل من أنت، أي أنك تستفيد من دقة نتائج غوغل، مع حماية خصوصيتك بالكامل.
  • SearXNG (رابط المشروع): واجهة بحث مفتوحة المصدر يمكن لأي شخص أن يستضيفها. يجمع نتائج من عدة محركات (غوغل، بينغ، ويكيبيديا، وغيرها)، لكنه لا يسجل أو يرسل أي بيانات شخصية. هناك نسخ عامة يمكنك أن تستخدمها مباشرة دون إعداد مسبق.
  • Brave Search: طُوِّرَ من قِبل الفريق الذي صمم متصفح «بريف»، وهو محرك مستقل بالكامل لا يعتمد على «غوغل» أو «بينغ». يقدم نتائج جيدة نسبيًا دون تتبُّع، ويعمل على تحسين قاعدة بياناته الخاصة مع الوقت.

أدوات أخرى تحمي الخصوصية

الاعتماد على المتصفحات ومحركات البحث التي تحترم الخصوصية هو الخطوة الأولى، ويفضَّل بعد ذلك أن تخطو بالمزيد من الخطوات وأن تستفيد من أدواتٍ إضافية تقلّل من التتبُّع وتحسّن من مستوى حماية بياناتك أثناء التصفح.

١. إضافات للمتصفّح (Extensions):

  • uBlock Origin: أداة مفتوحة المصدر لحجب الإعلانات والمُتتبّعات، وهي خفيفة وفعّالة جدًا[٣].
  • Privacy Badger: تطوّرها منظمة EFF، تكشف المُتتبّعات تلقائيًا وتمنعها دون الحاجة لإعدادات معقدة.
  • ClearURLs: تحذف تلقائيًا رموز التتبُّع الإضافية من الروابط.
  • Cookie AutoDelete: تحذف ملفات الارتباط تلقائيًا من المواقع بعد مغادرتها.
  • I don’t care about cookies: في حالة استعمالك للإضافة السابقة وواجهت مشكلة ظهور نافذة ملفات الارتباط كل مرة، ستفيدك هذه الإضافة بإخفائها من الأساس.

٢. الشبكات الخاصة الافتراضية (VPN):

تُخفي شبكة خاصة افتراضية (VPN) عنوان بروتوكول الإنترنت أو «آي بي» الخاص بك وتُشفّر اتصالك، ما يُصعّب على المواقع أو مزود الإنترنت مهمة تتبعك. اختر خدمات موثوقة تحترم الخصوصية، مثل:

  • Mullvad: لا يطلب بريدًا إلكترونيًا، ولا يحتفظ بسجلات، ويُعتبر من أكثر الخيارات احترامًا للخصوصية.
  • Proton VPN: من شركة «بروتون» (Proton) الشهيرة بخدماتها الآمنة، ويوفر خيارًا مجانيًا بجودة جيدة.
  • IVPN: شركة صغيرة ومستقلة، تركز على الشفافية وعدم الاحتفاظ بالسجلات.

قوانين حماية البيانات

السبب الرئيسي لتفشّي نوافذ ملفات تعريف الارتباط في المواقع التي نزورها اليوم هو وجود تشريعات تفرض على الشركات الكشف عن طرق جمع البيانات، وتطلّب الحصول على موافقة المستخدم الصريحة، ومن أبرز هذه التشريعات:

اللائحة العامة لحماية البيانات (GDPR)

بدأ تطبيق هذا النظام في الاتحاد الأوروبي عام ٢٠١٨، وهو واحد من أقوى التشريعات عالميًا في مجال حماية الخصوصية، ويَنُصُّ بشكل مبسّط على:

  • إعلام المستخدمين بماهية البيانات التي تُجمع عنهم والغاية من جمعها.
  • وجوب الحصول على موافقة صريحة (Opt-in) قبل جمع أو استخدام أي بيانات غير ضرورية.
  • تمكين المستخدم من رفض التتبُّع دون أن يتأثر استخدامه للموقع.
  • منح المستخدم حق الوصول إلى بياناته، وتعديلها أو حذفها.

لهذا السبب عند زيارة موقع إلكتروني من أوروبا، ستلاحظ أن نافذة ملفات تعريف الارتباط تعطيك خيارًا واضحًا وحقيقيًا لرفض التتبُّع، مع تفاصيل دقيقة حول نوع البيانات والأطراف التي تستلمها، أمّا عند زيارة نفس الموقع من دولة خارج الاتحاد الأوروبي فقد تجد اختلافًا في هذه النافذة مثل عدم وجود خيار الرفض.

على سبيل المثال، زرتُ موقعًا عربيٍّا من عنوانين مختلفين: مرة من عنوان عربيّ ومرةً أخرى من عنوان أوروبي، ولاحظت اختلاف النصوص في نافذة ملفات الارتباط.

Picture1 - cookies.png
نافذة ملفات تعريف الارتباط التي تظهر لمستخدم في أوروبا

 

Picture2 - cookies.png
نافذة ملفات تعريف الارتباط التي تظهر لمستخدم في غرب آسيا وأي دولة أخرى بدون قانون حماية بيانات

ماذا عن منطقتنا؟

مع توفر قوانين حماية البيانات الشخصية في أغلب الدول العربية، إلا أنها ما تزال تواجه تحديات ومشكلات أهمها الاستثناءات أو عدم تطبيقها بصرامة لا سيما على الشركات العالمية.

وجود قوانين واضحة يُجبر الشركات على احترام خصوصيتك، ويعطيك وسائل قانونية للدفاع عن بياناتك في بلدك. غيابها أو غياب تطبيقها في منطقتنا يُسهِّل على المواقع والشركات أن تجمع بياناتك دون أن تشعر بذلك، ودون أن تتحمل أي مسؤولية.

لماذا أهتم ولمَ يجب أن تهتم

ملفات تعريف الارتباط بحد ذاتها كتقنية قد لا تكون خطيرة، لكن الخطورة تكمن في من يمكنه أن يقرأها. فالكثير من المواقع تسمح لطرف ثالث —مثل شبكات الإعلانات أو أدوات التحليل— بزرع ملفات خاصة به، مما يسمح له بتتبعك عبر عدة مواقع، وليس فقط على الموقع الذي زُرته.

يشعرني التتبُّع أن هناك من يتربص بي ويراقب تحركاتي الرقمية عن كثب. كل ضغطة زر، وزيارة موقع، وبحث على غوغل، أو حتى «ميم» أو نكتة أتفاعل معها أو يرسلها صديق، كلها تساهم بشكل أو بآخر في بناء هويتي الرقمية لدى شبكات الإعلانات.

عندما أرى إعلانًا عن منتج أو خدمة ما بمجرد التفكير فيهما من قبل أتذكر كم تَطوَّرت تقنيات التتبُّع حتى أصبحت بعض التدابير الوقائية غير مجدية في الحماية منها. لا أُنكِر أنني أستفيد من هذه الإعلانات في بعض الأحيان، فهي تعرف بالضبط ما أريده أو أحتاجه أحيانًا، لكن هل تستحق هذه الكمالية أن يُجمَع هذا الكم من البيانات الشخصية عني وعنك؟ هل يستحق الأمر أن تجتاح الشركات خصوصيتنا بلا رقيب أو حسيب؟ بلا شفافية حول كيفية استخدام البيانات أو إتاحة الخيار لرفض هذا المدى من التطفّل على بياناتنا؟

قد تختلف إجابات هذه الأسئلة من شخص لآخر، لكن الثابت هو أن بياناتك الشخصية مهمّة أكثر مما تتخيل.

الهوامش

  1. حصة «غوغل كروم» السوقية هي ٦٣% حسب تقرير «Cloudflare» للربع الأول من عام ٢٠٢٥. radar.cloudflare.com
  2. حصة برنامج «غوغل أدسنس» السوقية هي ٧١% مع دخل لـشركة «غوغل» تجاوز ٢٦٤ مليار دولار للعام الماضي من الإعلانات وحدها. 6sense.com, statista.com
  3. لن تعمل أدوات منع الاعلانات والتتبع في النسخ الجديدة من متصفح «جوجل كروم»، وهذا سبب آخر لاستخدام متصفح بديل يحترم خصوصيتك وحريتك.